من الحضارة العربيّة إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة | فصل

مخطوط بالعربيّة يُظْهِر عمليّة جراحيّة من القرن الخامس عشر (1465)

 

نشر الروائيّ والباحث جمال ضاهر، كتابه الجديد بعنوان «من الحضارة العربيّة إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة» (2021)، عن «دار الفارابي» في بيروت.

يبحث الكاتب الإنتاج الفكريّ العربيّ قبل الدعوة، وتأثيراته في الحضارة العربيّة الإسلاميّة حتّى بداية القرن الثاني الهجريّ، ويقف على طبيعة الإنتاج العلميّ وآليّاته في تلك الفترة، متتبّعًا الحركات الفكريّة فيها، ومبيّنًا أنّ مصادر الفكر في الحضارة العربيّة الإسلاميّة ليست يونانيّة كما يُعْتَقد، وإنّما عربيّة محض.
 

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، فصلًا من الكتاب بعنوان «الطبّ عند العرب ما قبل الدعوة»، بإذن من الكاتب.

........

 

المقدمة

ليس بين أيدينا كتابات في المنهج، على النمط اليونانيّ، تعود إلى عرب ما قبل الدعوة، الدعوة الإسلامية، وكذلك ليس بين أيدينا كتابات تشير إلى أنّ المناهج، بحدّ ذاتها، شكّلت عندهم موضوع اهتمام. غير أنّ انعدام مثل هذا النوع من الكتابات لا يشير إلى شيء ممّا كانوا عليه، عمّا كان أو لم يكن عندهم. انعدام الأدلّة، بحدّ ذاته، لا يُفيد بشيء؛ عدم العثور على مثل هذه الكتابات لا يشير ولا يفيد بأنّ العلوم ومناهج تحصيلها لم يكونا موضوع اهتمام عندهم. 

غير أنّنا نستطيع الاستدلال على اهتمامهم بالعلوم وبمناهج تحصيلها، بل وعلى وجود إرث فكريّ ومعرفيّ عربيّ سابق للدعوة باقتفاء حركة تاريخ الفلسفة بعد الدعوة والوقوف على مواقع الاختلاف والخلاف بين ما جاء فيها وما انكشفوا عليه من فلسفات غيرهم، مثل الاختلاف الحاصل بين جابر بن حيّان وأرسطو بخصوص تعريف النفس (1)، أو الاختلاف الواقع بين الكنديّ وأرسطو بخصوص الزمن واختلاف رأيهما بخصوص أزليّة الكون. بل بإمكاننا الاستدلال على وجود إرث فكريّ ومعرفيّ عربيّ سابق للدعوة من مجرّد حدوثها، وبإمكاننا الاستدلال على طبيعة هذا الإرث بوقوفنا على المعاني المتضمّنة في التنزيل. 

بل إنّه الباحث لا يحتاج سوى أن يسأل أسئلة بدهيّة لا تحتاج لكثير من إعمال للفكر؛ هل يُرسِل الله بنبيّه إلى أناس يُمسك بهم الجهل، فلا يفقهون تنزيله الإعجاز؛ ما جاء يدعونهم إليه؟ واللغة، هل من الممكن للغة كالعربيّة مكتملة أن تكون لشعب جاهل ولا علوم عنده؟ أو، هل يكون إيجاز البيان موضوع انشغال ومصدر مفاخرة عند شعب غير مَهْجوس بلغته، وبالتجريد؟ 

أسئلة بدهيّة كهذه، الكثير من مثلها، تبدأ بالظهور وتبدأ بالنموّ عندما نعرف عن انشغال المسلمين الأوائل، العرب، بالمسائل العقائديّة، وعن خلافاتهم وصراعاتهم المذهبيّة، وأنّهم كانوا، زمن الرسول، يضربون القرآن بعضه ببعضه؛ هل كانوا يفعلون لولا أنّهم تعمّقوا في المقالات من قبل؟ هل كانوا يفعلون لولا أنّه كان لهم رأي في الفلسفة؟ ولولا أنّهم كانوا يُسائلون المُقدّس، ولا يأخذون بسُلطان غير سلطان العقل خاصّتهم؟ 

وعندما نعرف عن انشغال العرب غير المسبوق، حتى اليوم هذا، بالتسمية؛ بوضع اسم لكلّ حالة من حالات الأشياء كلّها، كلّها على الإطلاق، مثل تفصيلهم في أوائل الأشياء وأواخرها، وفي الطول والقصر، وفي اليُبْس واللين، وفي القلّة والكثرة، وفي الملء والامتلاء والصفورة والخلاء، وفي الشيء بين الشيئين، وفي الأصول والرؤوس والأعضاء والأطراف وأوصافها وما يتولّد منها وما يتّصل بها ويذكر معها، مثل حدّة اللسان وعيوب الكلام ومعايب الفم (2)، معرفتنا بهذا الانشغال، بالإضافة إلى انشغالهم بإيجاز البيان، يجعلنا نُعيد النظر في الآراء السائدة، برمّتها، بخصوص الحضارة العربية، آراء القدماء والمعاصرين على حدّ سواء، أمثال نيقولا ريشر Nicholas Rescher ودي بور De Boer وأمثال المقريزي وابن خلدون ومحمد عابد الجابري.

لست هنا بصدد الوقوف على آراء الباحثين، وإظهار ما تتضمّنه من إشكالات، وكيف أنها تتعارض وما بين أيديهم من معلومات عن العرب. ليس هذا موضوع اهتمامي هُنا. ولكنّي مع هذا، أرى ضرورة للتوقّف، وإن قليلَا، عند أحد هؤلاء الباحثين؛ أظهر حدة الإشكالات المتضمّنة في تنظيره بخصوص العرب، لإظهار ضرورة إعادة النظر في الآراء السائدة بخصوصهم. أتوقّف عند الجابري، مثالًا ممثّلًا لباحث لم يكفّ عن البحث في الحضارة العربيّة، والعربيّة الإسلاميّة، حتى مماته. نأخذ رأيه بأنّ لغة العرب لغة حسّية، لا تاريخيّة، والذي يتعارض، بوضوح لا غبش فيه، مع كلّ ما هو معروف عن العرب. البلاغة في إيجاز البيان، على سبيل المثال؛ فأن تُوجز وأن تكون بليغَا في بيانك، إنّما هو فعل محض عقليّ، غايته خلق الجميل. كما الفنّ، كما الأدب والموسيقى، أدواته وآلياته عقليّة، هو فعل محكوم للعقل وللمعرفة. عند عبد الله بن سنان الخفاجى، فإنّ "المختار من الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساويَا للّفظ أو زائدًا عليه" (3). ويقصد بقوله هذا هو "أن يكون اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير دلالة واضحة ظاهرة، لا أن تكون الألفاظ لفرط إيجازها قد ألبست المعنى وأغمضته حتى يحتاج في استنباطه إلى طرف من التأمّل ودقيق الفكر" (4)

وبدل أن يأخذ الجابري البلاغة في إيجاز البيان، أو التفصيل في حالات الأشياء، أو اكتمال اللغة العربيّة زمن الدعوة، أو ما تضمّنه التنزيل من براهين منطقيّة وحجج محض فلسفيّة، أو ما هو معروف عن الصراعات العقائديّة بين المسلمين الأوائل، فيستدلّ على معارف العرب ومواضع اهتمامهم وطبيعة انشغالاتهم، يلجأ، بدلًا من هذا كلّه، إلى ما يظنّ أنّها الصحراء وأنّها الحياة فيها، ليصل إلى رأي يقول إنها اللغة العربية حسّيّة لا تاريخيّة. يقول الجابري: "إن جمع اللغة من الأعراب البدو ومنهم وحدهم لا بد أن يترك فيها ’آثارهم‘، أعني بعض خصائصهم الراجعة إلى ظروف معاشهم وفي مقدّمتها الطبيعة الحسّيّة لتفكيرهم ورؤاهم. إنّ جمع اللغة من الأعراب، دون غيرهم، معناه جعل عالم هذه اللغة محدودَا بحدود عالم أولئك الأعراب" (5). وعليه، وبّما أنّ العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية هو "عالم حسّيّ لا تاريخيّ: عالم البدو من العرب الذين كانوا يعيشون زمنًا ممتدًّا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانًا بل فضاءً (طبيعيًّا وحضاريًّا وعقليًّا) فارغًا هادئًا، كلّ شيء فيه صورة حسّيّة، بصريّة أو سمعيّة" (6)، بما أنّ هذا هو العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية، فإنّ اللغة العربيّة ستكون هي الأخرى كذلك؛ لغة حسّيّة لا تاريخيّة.  

وبعد أن يضع الجابري أحكامه على العرب وعلى اللغة العربيّة وعلى الحضارة العربيّة برمّتها اعتمادًا على ظنّه أنّها الصحراء لا تعدو أن تكون امتدادًا لرمال، يأخذ وجهته إلى داخل اللغة ليُخلي العربيّة من نفسها. يقول: "ولمّا كان هؤلاء يحيون حياة ’فطرة‘ و’الطبع‘، أي يحيون حياة حسية ابتدائيّة، فلقد كان لا بد أن ينعكس ذلك على تفكيرهم وبالتالي على اللغة التي جمعت منهم وقيست بمقاييسهم، ومن هنا ما لاحظه أحد الكتّاب المعاصرين من ’أن الكلمات العربيّة ذات أصول في الطبيعة وأنّ مبدأ الصحّة فيها قد تعين من قبل الفطرة لا من قبل العرف والعادة‘ وبالتالي فإنّ ’الكلمة التي لا يمكن إرجاعها إلى صورة صوتيّة مقتبسة من الطبيعة، وفي حدود الصناعة العربيّة، لهي كلمة دخيلة على العربيّة‘" (7).

بهذا، ليس أنّ الجابري لم يأخذ في استدلالاته هذه سوى ظنونه، التي لم يقدّم، في أيّ من مؤلفاته، ولو كلمة واحدة لتأسيسها ولتدعيمها، بل إنّه يُنكر معارفه، أو أنّه حقًّا لا يعرف (8)؛ فما كان على الجابري سوى أن يعود إلى أحد المراجع المعنيّة ليجد المادّة التي يطلبها جاهزة بكاملها أمامه (9)، من مثل فقه اللغة للثعالبيّ ومخصّص ابن سيده. في الباب الثالث والعشرون، الفصل الثالث والثلاثون من فقه اللغة، تحت عنوان في خشبات الصنّاع وغيرهم، نجد:

المِسْطَحُ للخَبَّازِ  الوَضَمُ للقَصَّابِ  الجَبْأةُ لِلحَذَّاءِ  الفُرْزُومُ للإسْكَافِ  الرَّائِدُ للنَدَّافِ  الحَفُّ للنَسَّاجِ  المِطْرَقَةُ لِلحَدَادِ  المِدْوَسُ لِلصَّيْقَلِ  النِّهَايَةُ لِلحَمَّالِ (وهيَ بالفَارِسِيَّةِ نَاهُو)  المِيقَعَةُ لِلْقَصَّارِ، وهي الّتي يَدُقُّ عليها الثِّيَابَ والوَبِيلُ الّتي يَدُقُّ بِهَا المِقْوَمُ للحرَّأثِ (وهِيَ الخَشَبَةُ الّتي يُمْسِكُهَا الحَرَّاثُ بِيَدِهِ)  المِحَطُّ الخَشَبَةُ الّتي يُصْقَلُ بِهَا الأدِيمُ ويُنْقَشُ (وَيسْتَعْمِلُهَا الأسَاكِفَةُ والمُجَلِّدُونَ)  القَصْرَةُ الخَشَبَةُ يُدَارُ بِهَا رَحَى اليَدِ  المِخَطُّ الخَشَبَةُ الّتي يَخُطُّ النَّسَّاجُ بِهَا الثَيَابَ  المِدْحَاةُ الخَشَبَةُ الّتي يُدْحَى بِهَا الصَبِيُّ فَيَمُرُّ عَلَى وَجهِ الأرْضِ  المِشْخَبُ الخَشَبَةُ المُشْتَبِكَةُ تُجْعَلُ في عُرْوَةَ الجُوَالِقِ  المِرْبَعَةُ الخَشَبَةُ الّتي تُرْبَعُ بِهَا الأحْمَالُ، أي تُرْفَعُ المِشْحَطُ الخَشَبَةُ تُوضَعُ عِنْدَ القَضِيبِ مِن قُضْبَانِ الكَرْم يَقِيهِ مِنَ الأرْضِ  الشِّجارً الخَشَبَةُ الّتي تُوضَعُ عَلَى فَمِ الفَصِيلِ لِئَلاّ يَرْضَعَ أمَّهُ  التَّوْدِيَةُ الخَشَبَةُ الّتي تُشَدُّ عَلَى خِلْفِ النَّاقَةِ لِئَلا يَرْضَعَهَا الفَصِيلُ  النَّجْرَانُ الخَشَبَةُ يَدُورُ عَلَيْهَا البَابُ  الرِّجَامُ الخَشَبَةُ الّتي يُنْصَبُ عَلَيها القَعْوُ الطَّبْطَابَةُ الخَشَبَةُ الّتي تُنَزَّى بِهَا الكُرَةُ  القُلَةُ الخَشَبَةُ الّتي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ  المِيطَدَةُ يُوْطَدُ بِهَا المَكَانُ فَيُصلَّبُ لأسَاسِ بِنَاءٍ وغَيْرِهِ  الوَزْوَزُ خَشَبَةٌ عَرِيضَة يُجَرُّ بِهَا تُرَابُ الأَرْضِ المُرْتَفِعَةِ إِلَى الأرْضِ المُنْخَفِضَةِ  النِّيرً الخَشَبَةُ المُعْتَرِضَةُ عَلَى عُنقَي الثَّوْرَيْنِ المَقْرُونَيْنِ لِلْحِرَاثَةِ  المِسْمَعَانِ الخَشَبَتَانِ تَدْخُلاَنِ في عُرْوَتَي الزَّنْبِيلِ إذا أخْرِجَ بِهِ التُّرَابُ مِنَ البِئْرِ، يُقال: أسْمَعْتُ الزِّنْبِيلَ (10).

يكفينا الوقوف على اسم واحد من هذه الأسماء، وإظهار أنّه لا يرتبط بالصوت الصادر عنه، لا في الطبيعة ولا في غيرها، ولكنّي سأقف عند ثلاثة، فلا تبقى شكوك عند كثير الشك، ولو آثارها. أقف عند أوّل ثلاثة أسماء في القائمة كما جاءت عند الثعالبيّ.

المِسْطحُ، للخبّاز: من سطح، وهو المحورُ يُبْسَط به الخبز، والجمع: مساطح. الوَضمُ، للقصاب: من وضم، وهو كل ما يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير أو نحو ذلك، يُوقَى به من الأرض، والجمع: أوضام وأوضمة. الجَبْأةُ، لِلحَذَّاءِ: من جبأ، وهي الخشبة، المنضدة التي يحذو عليها، والجمع: أجبؤ (11)

ليس، في الحقيقة، من سبيل لأن نعرف من أين يستقي الجابري يقينه بما يظن أنّها الصحراء وأنّها الحياة فيها، وليس من سبيل لأن نعرف لماذا هذا الإصرار، وهذا الإيغال، وكيف له أن يقدّم، من دون تردد، معلومات خاطئة ومخالفة للواقع؛ نفيه لوجود أسماء آلات وأدوات ذات أصول عربيّة سوى تلك المقتبسة أصواتها من الطبيعة، ليس استثناء عنده، بل يعكس طريقه في التعامل مع العرب. نأتي بمقطعين إضافيين من معرض حديثه عن الصحراء، وعن رمالها وعن فضائها ورتابتها، وكيف أنّها أنتجت لغة بحدودها. 

الأول: "ومن دون شكّ فإنّ الإنسان العربيّ في العصر الجاهليّ – وكذلك سكّان المناطق الصحراوية اليوم – يتوفّر عدد هائل من الكلمات الي تخصّ الحرارة: درجاتها، أنواعها، تغيّرها بالعلاقة مع المكان والزمان... الخ. هذا بينما لا يتوفّر العربيّ – فيما نعلم – إلّا على كلمة واحدة تخصّ عالم الثلج، وهي كلمة ’الثلج‘ ذاتها" (12).

الثاني: "هذا الفقر الحضاريّ في اللغة العربية يقابله فيها غنى بدوي، يتمثّل خاصة في كثرة المترادفات، كثرة راجعة في جزء منها إلى الاشتقاق الصناعيّ على طريقة الخليل، وفي جزء آخر إلى ’السماع‘ من قبائل مختلفة. فمن جهة كان لابدّ أن يؤدّي الإشتقاق الصناعي إلى التضخّم في الكلمات التي هي من أصل واحد... ومن جهة أخرى كان لا بد أن يؤدّي أخذ اللغة من قبائل مختلفة – وليس من قبيلة واحدة كقبيلة قريش مثلًا – إلى ظاهرة كثرة المترادفات التي تشكو منها لغة الضاد" (13)

من أجل أن نبيّن خطأ المعلومات التي يقدمها الجابري بخصوص الثلج، لا نحتاج سوى أن نذكر بعضَا من الأسماء التي عرفها العرب للثلج: السقيط وهو نوع من أنواع البَرَد؛ سقيط السحاب البَرَد  البَرَد وهو الماء الجامد ينزل من السحاب قطعًا صغارًا، ويُسمّى أيضًا حبّ الغمام وحبّ المزن  الجليد وهو ما ينزل على الأرض من الندى فيجمد  الخشف وهو الثلج الخشن  الضريب وهو الصقيع  الجمد وهو الثلج المتجمّد، يُقال: صار الماء جمدًا  العضرس وهو من نوع البَرَد  الدمق هو البَرَد مع الريح يغشى الإنسان من كل أوب حتى يكاد يقتل (14).

أمّا بالنسبة للمقطع الثاني، المقطع الخاصّ بالاشتقاق والمترادفات، فلا أحسبنا نحتاج، من أجل إظهار عدم صدقه، سوى التنويه إلى أنّ الأسماء التي أتينا بها للثلج ليست مترادفات، بل أسماء حالات مختلفة للثلج. ومع هذا، سآتي بمثال آخر، ليس من أجل تبيين خطأ الجابري بخصوص المترادفات، فهذا بائن بذاته، بل من أجل إظهار عدم الاكتراث، في أعلى تجلّياته، في التعامل مع العرب، لتأكيد ضرورة إعادة النظر في التنظير وفي الآراء السائدة بخصوص العرب والحضارة العربية، بل وبخصوص الحضارة العربيّة الإسلاميّة على حدّ سواء. فتقرير الجابري، بيقينه المعتاد، بأنّ "الواقع التاريخيّ يؤكّد بما لا مجال للطعن فيه أنّ أوّل عمل عمليّ منظم مارسه العقل العربيّ هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها" (15)، غير منفصل، بل هو امتداد لرأيه بأنّ العرب عاشوا على سجيّتهم، بالفطرة والطبع.

في تقسيم خروج الماء وسيلانه من أماكنه: مِنَ السَّحَابِ سَحَ  مِنَ اليَنْبُوعِ نَبَعَ  مِنَ الحَجَرِ انْبَجَسَ  مِنَ النَّهْرِ فَاضَ  مِنَ السَّقْفِ وَكَفَ  مِنَ القِرْبَةِ سَرَبَ  مَنَ الإنَاءَ رَشَحَ  مَنَ العَيْنِ انْسَكَبَ  مِنَ المَذَاكِيرِ نَطَفَ  مِنَ الجُرْحِ ثَعَّ" (16).

لا أحسبنا نحتاج سوى النظر إلى الأسماء، لنرى أنّها ليست مترادفات ولا أنّها اشتقاقات من مصدر واحد، بل هي أسماء لحالات، هي أسماء لخروج الماء وسيلانه باختلاف أماكنه، وجميعها معروفة، كما أسماء الآلات كما أسماء الثلج، ويمكن التوصل إليها من دون جهد ولا معاناة. 

كما الجابري كما غيره من الباحثين، لا ينفصل رأيهم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة عن رأيهم في الحضارة العربيّة، ولهذا، فإنّ إعادة النظر في الأدبيّات الخاصّة بعرب ما قبل الدعوة، هي مقدّمة، أو، لنقل: هي طريق لإعادة النظر في الحضارة العربيّة الإسلاميّة؛ فعندما ترتسم صورة ما كانوا عليه، صورة مُغايرة لتلك التي رسمها الجابري وغيره من الباحثين، سيكون بإمكاننا أن نجيب عن ثلاثة أسئلة، بما يتعلق بالحضارة العربيّة الإسلاميّة: 

هل حقًّا كانت بدايات الانشغال الفكري، في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، مع حركة الترجمات؟

هل حقًّا كان على الحضارة العربيّة الإسلاميّة أن تنتظر حتى القرن الثالث للهجرة، حتى مجيء الكنديّ، ليصير عند العرب فلسفة وفلاسفة؟ 

هل حقًّا كان للانكشاف على اليونان تأثيرًا إيجابيًّا، كما يُعتقد، على العرب وحضارتهم، أم أنّ انكشافهم كان له الأثر السلبيّ عليهم؟

سأجيب، في هذا العمل، عن السؤال الأوّل والثاني، أما السؤال الثالث، فسأترك الإجابة عنه للعمل القادم. أُجيب عن هذين السؤالين في خمسة فصول:

أبين، في الفصل الأوّل، الطبّ عند عرب ما قبل الدعوة: في المنهج، صدق قول أبو عمرو بن العلاء إن "ما انتهى إليكم ممّا قالته العرب إلّا أقلّه. ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير" (17)، وأنّ العرب، كما يقول القلقشنديّ، "وإن كانت تعنى بالألفاظ فتُصلِحُها وتهذّبها فإنّ المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدرًا في نفوسها. ولمّا كانت الألفاظ عنوان المعاني وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها، وزيّنوها وبالغوا في تحسينها: ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد" (18). سأبيّن صدق قولهما، القلقشندي وأبو عمرو بن العلاء، بالكشف عن مناهج البحث والإنتاج المعرفيّ عندهم، من خلال الوقوف على طبيعة ما أنتجوا من معارف طبّيّة.

ثم، في الفصل الثاني، في التنزيل، وفي معنى الواحد، أُظهر أنّ تنزيله تعالى لم يُشكّل خطًّا فاصلًا بين ما كان قبل الدعوة وما جاء بعدها، ليس من حيث الانشغال والاشتغال بالعقيدة والفكر، إنما شكّل خطًّا فاصلًا من حيث المرجعيّات فحسب؛ أنّ المسلمين الأوائل، العرب، ومن جاء بعدهم، أخذوا التنزيل مرجعيّة لسجالاتهم وصراعاتهم العقائديّة. بل، وإذا ما قمنا بالوقوف على ما جاء في التنزيل من بنى منطقيّة وحجج محض فلسفيّة، فسيُشكّل برهانًا على أنّ المنطق والفلسفة لم يكونا حكرًا على اليونان القديم، وإلّا ما كان الله ليستعمله في تنزيله، وما كان ليضع حججًا محض فلسفيّة يدعو العرب للإيمان به واحدًا. فغير ذلك، أيّ لو لم تكن لدى العرب مقدرة على فهم الحجج التي أتى بها الله في تنزيله ولم تكن لديهم مقدرة على التعامل مع آلة كالمنطق، لكان الله قد بعث بنبيه عبثًا.

وفي الفصل الثالث، نشوء الفِرَق، وعرب ما قبل الدعوة، أكشف عن بدايات حركة الفكر في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بعلاقتها مع حركة الفكر في الحضارة العربيّة، وأبيّن أن العرب قبل الدعوة كانوا قد تعمّقوا في المقالات وأنّه كان لهم رأي في العقائد وفلسفة في الدين. ثم أنتقل إلى الدعوة، إلى الصراعات العقائدية، زمن الرسول وما تلاه حتّى علي بن أبي طالب؛ فأبين أن حركة مستمرة من الانشغال الفكريّ كانت بين ما قبل الدعوة وما بعدها.

ثمّ، في الفصل الرابع، ظهور المعتزلة وما سبقه، أقوم بتتبع حركة الفكر في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، تلك المتعلقة بمساءلة الذات الإلهيّة ومسألة القدر بخاصة، حتى ظهور المعتزلة، حتى واصل بن عطاء. وهكذا يظهر أنّ واصل لا يخرج عن كونه امتداد لحركة فكريّة إسلاميّة، تطوّرت في فضاء الحضارة العربية الإسلامية، بتأثير الشروط التاريخيّة الخاصة بها.  

وفي الفصل الخامس، ظهور المعتزلة ونشوء الفلسفة، الفصل الأخير، أقوم بالتفصيل في العلاقة بين المعتزلة ومقالات المرجئة والخوارج، وأظهر كيف أنّها لا تخرج عن السجالات التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية في مختلف مراحلها، بدءًا بالدعوة. وأُبيّن كيف أنّ بإجابة واصل بن عطاء "أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر"، كان يضع فلسفة، بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، وأنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بالتالي، لم تنتظر حتى القرن الثالث للهجرة، ليأتي الكندي فيؤسس لها ويصير عند العرب فلسفة وفلاسفة.

 

الطبّ عند عرب ما قبل الدعوة

في المنهج

إنّ الهدف الأساس، في هذا الفصل، هو الوقوف على مناهج البحث والإنتاج المعرفيّ عند عرب ما قبل الدعوة، ليس معارفهم في الطبّ بحدّ ذاتها؛ الطبّ، عند العرب، هو مجال معرفيّ لم يسبق لي الوقوف عنده في أبحاث سابقة، ومن شأن التعامل معه أن يكشف جانبًا آخر عندهم، فتكون صورة ما كانوا عليه أوسع، وربّما أوضح. غير أنّنا، فيما أعتقد، من خلال الوقوف على طبيعة إنتاجهم الطبّيّ، بعلاقته مع سائر معارفهم، من الممكن لنا أن نتقصّى طرائق عملهم، المناهج الّتي اتّبعوها في الإنتاج؛ شروطها وآليّاتها وأدواتها. 

ولأنّه لم يسبق لي التعامل مع معارفهم في الطبّ، سأقوم، كما فعلت في أماكن أخرى(19)، بتفنيد الآراء السائدة، المُجْمَع عليها بين الباحثين بالخصوص؛ فكما كلّ شيء يتعلّق بالعرب، عرب ما قبل الدعوة وما بعدها، يشكّك الباحثون في هذا الجانب المعرفيّ عندهم، وينفون عنهم مجرّد القدرة على ممارسته، ناهيكم عن إنتاجه. 

غلاف الكتاب

في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء»، بعد أن يحيل معرفة الحارث بن كِلدة بالطبّ للفرس، يأتي ابن أبي أُصَيْبِعَة بحوار يقول إنّه كان بين الحارث وكسرى أنو شروان، يعبّر فيه كسرى عن استغرابه من معرفة الحارث بالطبّ وهو عربيّ؛ كيف لهم أن يمارسوا الطبّ والجهلُ يسيطر عليهم والضعف يمسك بعقولهم: 

"فمن ذلك: أنّه وَفّدَ على كسرى أنوشروان، فأذن له بالدخول عليه. فلمّا وقف بين يديه منتصبًا، قال له: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن كلدة الثقفيّ. قال: فما صناعتك؟ قال: الطبّ. قال: أعرابيٌّ أنت؟ قال: نعم. قال: فما تصنع العرب بطبيبٍ مع جهلها وضعف عقولها وسوء أغذيتها؟

قال: أيّها الملك، إذا كانت هذه صفتها، كانت أحوج إلى من يُصْلِح جهلها ويُقَيِّم عِوَجَها، ويسوّس أبدانها ويعدّل أمشاجَها. فإنّه العاقل يعرف ذلك من نفسه، ويميّز موضع دائه، ويحترز عن الأدواء كلّها بحسن سياسته لنفسه"(20)

إنّ الحارث بن كلدة، الّذي يتحدّث عنه ابن أبي أُصَيْبِعَة، عايش الدعوة والخلافة الراشدة، ويُقال إنّه عايش ما بعدها، أيّ أنّه عايش الدعوة وعايش امتداد حكم الإسلام ليخرج عن حدود شبه الجزيرة العربيّة، ليشمل بلاد الشام والعراق ومصر وأفريقية وفارس وخراسان. الأمر الّذي يعني أنّ العرب المشار إليهم في الحوار بين كسرى والحارث بن كلدة، هم ذاتهم أصحاب الخلافة الراشدة الّذين امتدّ حكمهم خارج حدود شبه الجزيرة. وفي هذا نتحدّث، على سبيل المثال، عن خالد بن الوليد وعن عمر بن الخطّاب اللّذين "يندر أن تجد مَنْ يماثلهما على مرّ العصور"(21)

وعليه، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ خالد بن الوليد وعمر بن الخطّاب ليسا استثناء في تلك الفترة، سيكون من الصعب عدم مساءلة الحوار الّذي أتى به ابن أبي أُصَيْبِعَة بين كسرى والحارث بن كلدة، أقصد المقطع المتعلّق بعرب ما قبل الدعوة؛ جهلهم وضعف عقولهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّهما ليسا استثناء ليس فقط في تلك الفترة، بل ولا في فترات سابقة لها(22)، ستتعذّر إمكانيّة عدم المساءلة؛ هل حقًّا هذا هو رأي الحارث بن كلدة بالعرب، أم أنّه رأي ابن أبي أُصَيْبِعَة ذاته؟ وإذا بحثنا في معارف العرب الطبّيّة، حين الدعوة وقبلها، وانكشف أمامنا ما يشير إلى أنّها كانت رفيعة الشأن، عندها لن يكون أمامنا سوى الاستنتاج بأنّه لا صلة لما يعتقد الحارث وما جاء في هذا المقطع من الحوار. 

غير أنّه، وقبل الانتقال للحديث عن الطبّ عندهم، سيكون من الضروريّ التعامل مع الادّعاء القائل بأنّ معارفهم الطبّيّة، أو غيرها، إنّما أخذوها عن غيرهم. من الممكن أن نفكّر بإجابتين لمثل هذا القول: الأولى، إذا ما قارنّا بين إنتاجهم المعرفيّ وإنتاج غيرهم من الشعوب القديمة، ولم نجد مثله عند غيرهم، فسيكون هذا الإنتاج خاصّتهم. في هذا، أقول: ليس أنّ نوع إنتاجهم المعرفيّ غير موجود عند اليونان فحسب، بل إنّه من غير الممكن لمثل هذا النوع من الإنتاج أن يكون وليد الحضارة اليونانيّة، أو غيرها ممّن أنتجت معرفة على شاكلة اليونانيّة، أو شبيهة بها؛ فبينما رأى اليونان أنّ الثابت، الجواهر substances وغيرها من الصفات الضروريّة necessary attributes، هو موضوع المعرفة(23)، بـ [ال] التعريف، وأنّ هذه الصفات، بعلاقتها مع الأشياء، هي ركيزة العلم وأساسه(24)، جعل العرب من المتغيّر والمتحوّل محورًا لاهتمامهم وموضوعًا لمعرفتهم. أي، وبكلمات أخرى، نحن أمام توجّهين معرفيّين مختلفين، كلٌّ منهما يبحث خارج حدود المجال المعرفيّ كما يراه ويحدّده الآخر(25)

الثانية، إذا كان ووجدنا من مثله عند غيرهم، فإنّ إنتاجهم، ولو شيئًا ضئيلًا نسبة لغيرهم، يعني أنّهم على معرفة بالمنظومة المعرفيّة الّتي أنتجوا هذا الضئيل وفقها(26). وإن قال قائل إنّهم لم ينتجوا شيئًا، فسأقول إنّهم على دراية به وبكيفيّة استخدامه، فإن أجروا عمليّات جراحيّة، للعين على سبيل المثال، يكونون على دراية بكيفيّة القيام بها كما يكونون على دراية بكلّ ما يلزم لإجرائها، مثل تشريح العين. وهذا ليس بالأمر البسيط، وله من الدلالات الكثير، مثل أنّهم على دراية بتقنيّات دقيقة لإجراء عمليّات جراحيّة للعين، ومثل أنّهم لا يعيشون وأنعامهم أعرابًا يبحثون عن الماء والكلأ؛ فمعرفة كهذه، من حيث شرط مجرّد وجودها، لا تكون عند أعراب رحّل(27).
 

في الطبّ 

في كتابه «قصّة العلوم الطبّيّة في الحضارة الإسلاميّة»، يقول راغب السرجانيّ: "كان التطبيب في الجاهليّة ذا شعبتين: شعبة تقوم في جوهرها على الكيّ بالنار، واستئصال الأطراف الفاسدة، والتداوي بشرب العسل، ومنقوع بعض الأعشاب النباتيّة، واللجوء إلى التمائم والتعاويذ على يد الكهّان والعرّافين... وشعبة تتّجه في علاجها إلى الحِمْيَة، وعلى إسداء النصيحة وليدة الخبرة، مثل قولهم: "المعدة بيت الداء، والحِمْيَة رأس الدواء" و"القديد مهلك لآكله". وقد استخدم العرب في الجاهليّة الأدوية البسيطة والأشربة الطبيعيّة، مثل العسل الّذي كان يُعْتَبَر أساس العلاج لأمراض البطن، وفي نواحٍ أخرى، قاموا ببعض العمليّات الجراحيّة الصغيرة، مثل الحجامة والكيّ والبتر والفصد والحمية، وتَنَاوُل بعض الأعشاب الطبيّة الّتي تنبت في بلاد العرب؛ ولذلك، فإنّنا لا نجد عندهم غير معرفة قليلة بالطبّ التجريبيّ والعقاقير والمعالجات بالضمد، واستخدام الأغذية وبعض الأدوية النباتيّة، ولم تكن لهم من المعرفة الطبّيّة غير ما اختزنته ذاكرة الحكماء ودوّنه الشعراء في قصائدهم، بحيث يمكن القول، بأنّ الطبّ العربيّ قبل الإسلام، لم يكن غير طبّ شعبيّ ينتقل بالممارسة والتعلّم شفاهة من جيل إلى جيل، وقد أضافت إليه الأعوام خبرة بعد أخرى"(28).

لا داعي، من أجل أن ننظر بعين الشكّ إلى رأي السرجانيّ هذا، سوى للإشارة إلى أنّه يعتمد في تقريره بشأن العرب على ثلاثة مؤلّفات، ليس بينها مصدر واحد(29)، بل وليس بينها ما يأخذ الطبّ عند عرب ما قبل الدعوة كموضوع للدراسة قائم بذاته. الأمر الّذي يعني أحد الأمرين: إمّا أنّه على اطّلاع على ما جاءت به المؤلّفات المختلفة من مراجع ومصادر غيرها، ويعرف أنّها لم تأتِ بمعلومات مخالفة لما يذكر في كتابه، وإمّا أنّه ليس مُطَّلِعا على هذه المؤلّفات ولا يعرف إن كانت متضمّنة لمعلومات تخالف ما أتى به في مؤلّفه. وللحقيقة، ليس من سبيل للفصل بالقول بهذا، هل يعرف أم أنّه لا يعرف، إنّما بإمكاننا الفصل بالقول بخصوص ما يقرّره عن العرب، وهذا ما سأفعله بعد قليل.

غير أن السرجانيّ ليس المثال الأكثر إشكالًا بين الباحثين، فهو لا يجمع بين متناقضات لا يلتفت إليها، كأنّما هي غير مرئيّة له، كما يفعل غيره من الباحثين بأمر العرب، من مثل السامرائيّ، الّذي على الرغم من كثرة معارفه يحكم على معارفهم، وعلى سبل تحصيلها، بالساذجة. في بداية حديثه عن الطبّ عندهم يقول: 

"كان طبيعيًّا أن يكون الطبّ عند عرب الجاهليّة في الحواضر أرقى من طبّ البوادي. وإذ إنّ الأعراب هم الكثرة الغالبة من سكّان الجزيرة العربيّة، فإنّ الطبّ عند العرب كان بسيطًا وبدائيًّا يستند أكثره على المتعارف عليه في استعمال التعاويذ والتمائم وتناول الموادّ الخامّ القريبة من الأيدي كالأعشاب الصحراويّة وأبوال الإبل، ورماد الحرائق، ودماء الذبائح والطرائد، والشمع والعسل ونحو ذلك... 

توصّل الأعراب إلى المعارف الطبّيّة بالمشاهدة والتجربة. فعرفوا بعض الأمراض بالمقارنة إلى ما يظهر على ماشيتهم أو على صحرائهم من تغيّرات غير مألوفة... 

ولا غرابة أن يخلط الأعراب في ذلك الزمان البعيد، بين عَرَض المرض والمرض نفسه. فحسبوا العَرَض مرضًا. والوجع بحدّ ذاته في نظرهم مرض. ووضعوا لكلّ مرضٍ اسمًا مشتقًّا من أعراضه وأوصافه. فسمّوا ألم الرأس صداعًا، لأنّ المصاب به يحسّ وكأنّ رأسه (يصدع) أي يفلق قطعتين من شدّة الألم"(30).

ولكنّه عندما يبدأ بتعداد ممارساتهم الطبيّة، يشير إلى أنواع مختلفة من ممارسة الطبيب، منه ما يُصَنَّف كنوع من الشعوذة، ومنه ما بإمكاننا تصنيفه كممارسات طبّيّة معقّدة بامتياز: 

"أمّا الإجهاض التلقائيّ، فإنّه مألوف في كلّ مكان وزمان. ولا بدّ أنّ القابلة الأعرابيّة هي الّتي تتدبّر هذا الأمر. كما عرفت القابلة الحمل (الحشيش) وهو الجنين الّذي يموت في الرحم ولا ينقذف منه. والغريب جدًّا أن يقوم الزوج لا القابلة، بعمليّة إخراج الجنين من الرحم تعرف باسم السطو، وبأيّ حال، فإنّ هذا الأمر ليس مفهومًا من وجهة استطباب العمليّة المذكورة وطريقة تنفيذها. والمعلومات عنه جدّ سطحيّة، ولا تذكرها إلّا كتب معاجم اللغة. وتذكر معاجم اللغة أيضًا عمليّة أخرى مارسها العرب، هي (الخشْعة) الّتي تجري على الحامل لحظة وفاتها، فَيُسْتَخْرَج عن طريق شقّ بطنها، الجنين الّذي ما يزال حيًّا. ويُسَمّى الجنين الّذي يخرج بهذه الطريقة (خارجة) كما يُسَمّى خَشْعَة أيضًا... وهذه العمليّة مألوفة عندنا في هذا اليوم باسم Post-Mortem Caesarean Section، وليس في التراثيّات العربيّة تفصيلات تقنيّة عن هذه العمليّة. ورغم أنّ العمليّة تُطَبَّق على الحوامل الأموات لا الأحياء، إلّا أنّها تتطلّب لإجرائها معرفة بتشريح البطن والرحم، وملحقات الحبل أيضًا"(31).

ورغم أنّه كان من الممكن لأمثلة كهذه أن تجعل السامرائيّ، وغيره ممّن على علم بها، يعيد النظر برأيه وموقفه من عرب ما قبل الدعوة بعامّة، ومعرفتهم بالطبّ بخاصّة، إلّا أنّه اختار أن يقدّم تفسيرًا يتلاءم وما يحمل من أفكار مسبقة عنهم، وأنّهم قوم أعراب لا يفقهون ولا يعرفون سوى الإبل والماعز وما يحدث معها. يقول: "إذا كان الرعاة يمارسون هذه العمليّة على أنعامهم ساعة تنفق، فلا نستبعد أن يكون هؤلاء الرعاة هم الّذين يمارسون عمليّة الخَشْعَة على نسائهم"(32). بل ونجده، عندما يعرف ما يستغرب من وجوده عندهم، يكتفي بالتعبير عن عدم فهمه: "والغريب في هذا الباب أنّ العرب في ذلك الزمان القديم، قد اكتشفوا علاقة الطمث ووقت انحداره مع اكتمال القمر في المحاق"(33)

من أجل تبيين عمق التناقض الّذي يقع فيه السامرائيّ، سآتي بمعارف في الطبّ أخرى، متضمّنة في مؤلّفات هو مطّلع عليها. لا يتّسع المكان لذكر كلّ ما جاء في هذه المؤلّفات، ولهذا سأكتفي بأهمّ المعلومات الطبيّة من حيث دلالاتها: 

(1)

"نصحوا بتنقيط نقط من ماء بارد في العين عند النهوض من النوم، لجلائها وإزالة الغشاوة عنها، كما نصحوا بوضع القدمين في ماء بارد أو حارّ، وذلك لمعالجة العين، ولمعالجة القدمين واليدين أيضًا. وقد عرف العبرانيّون هذه المعالجة أيضًا.

"وكانوا يعالجون الماء الأسود الّذي يحدث في العين بالنقب، أي بالقدح. وقد ورد في حديث أبي بكر، أنّه اشتكى عينه فكره أن ينقبها. و(الناقب) و(الناقبة) داء يعرّض للإنسان من طول الضَّجْعَة، وقيل هي القرحة الّتي تخرج بالجنب. وعالجوا الماء الأبيض باستعمال الأشياء الرفيعة الحادّة مثل السكّين أو العاقول، لرفع الغشاء الرقيق وسحبه عن العين، بعد اكتمال نزول الماء بها"(34).

(2)

"والأمراض اّلتي تعرّض لها الجاهليّون عديدة، منها: العمى، والعور، والتهاب العيون، والرمد، ومنها: ما يصيب الجلد، مثل البرص، والوضح، والبهق، والحكّة، والدمامل، والبثور، والجرب، والقرح، ومنها أمراض داخليّة، مثلًا أوجاع المعدة والكبد واليرقان والصداع والشقيقة، وذات الجنب وأوجاع المفاصل والعظام، والفالج، والسلّ، والحمّى، وأمراض أجهزة البول والحمى والبُرَداء. وأمراض القلب والرعشة والجنون والأمراض العصبيّة الأخرى، وغير ذلك من أمراض لا تزال غير معروفة"(35).

(3)

"ويؤخذ ممّا حوته اللغة العربيّة قبل الإسلام من أسماء العلل والأمراض والعقاقير، أنّ العرب عرفوا كثيرًا من الأمراض ومعالجتها، وناهيك عمّا عرفوه وتوسّعوا فيه من أحوال الأعضاء وأوصافها وهو من قبيل علم التشريح، وهم يعبّرون عنه بخلق الإنسان. وقد ألّف أدباء المسلمين كتبًا كثيرة في هذا الموضوع نقلًا عن العرب، سيأتي ذكرها بين مؤلّفات أهل اللغة. والمتأمّل فيما حوته من أسماء الأعضاء وأوصافها، يتبيّن له أنّ أولئك الجاهليّين كانوا على معرفة بتشريح الأعضاء، لأنّ عندهم لكلّ عضو اسمًا ووصفًا من الرأس وما يتركّب منه وما له من صفات، إلى الشعر وأقسامه وألوانه... فالأذن وما تركّبت منه وأقسامها... فالوجه وما تركّب منه... فالحاجب وأنواعه وما يحمد منه وما يُذَمّ... والعين وأصنافها وطبقاتها ومجاري دمعها، وغير ذلك ممّا اشتملت عليه. والأنف وما تركّب منه وبيان أقسامه. والفم وما تركّب منه. والأسنان وعددها وأسماء أصنافها وأجزائها ومنابتها. واللسان وما اشتمل عليه من الأجزاء والعظام الّتي في أسفله. والحلق وبين ما فيه من اللغاديد والحنجرة والغلصمة والبلعوم والحلقوم. واللحيين، وبيان محلّهما وأسماء ما تركّبا منه. واللحية وأسماء أجزائها وأقسامها وألوانها وسائر أوصافها. والعنق وما تركّب منه. والمنكب والكتف وما اشتملا عليه. واليد وما تركبت منه من العظام والأعصاب والعضلات والعروق، وما وضع لذلك من الأسماء. والأصابع وأسماؤها وأجزاؤها. والظفر وأقسامه وأسماؤه. والصدر وما تركّب منه. والجنبان وعدد أضلاعهما، وأسمائها، وما يلحق ذلك. والبطن وما حوى، وكذلك سائر الأعضاء. وقد توسّعوا في بعضها حتّى وضعوا لكلّ عضو عدّة أسماء"(36)

المقاطع الثلاثة هذه يُكْمِل الواحد منها الآخر، لتَظْهَرَ صورة مفصّلة لما كان عندهم من معرفة في الطبّ، والّتي من المفترض أن تُعْدِم مجرّد إمكانية التشكيك بعلوّ شأن معارفهم الطبّيّة. فهي تكشف، أوّلًا، عن طبيعة معارفهم وحجمها، وتكشف، ثانيًا، عن نمط إنتاجهم المعرفيّ، الطبّيّ في هذه الحالة. أقول "من المفترض" لأنّها لم تفعل(37).   

فإذا ما نظرنا إلى ثلاثة المقاطع أعلاه، نلاحظ ثلاثة أمور: الأوّل، أنّهم استخدموا الأدوية كما العمليّات الجراحيّة في علاجهم، وأنّ العمليات الجراحيّة الّتي قاموا بإجرائها كانت دقيقة، مثلما يتطلّب الأمر في جراحة العيون. الثاني، أنّهم عرفوا وعالجوا الكثير من الأمراض، وفي علاجهم هذا، كانوا على دراية بالعلاقة بين الأعضاء، مثلما العلاقة بين القدم والماء البارد والعين. الثالث، وهذا ما يهمّنا في سياق الحديث عن نمط إنتاجهم المعرفيّ، هو التفصيل في الأعضاء؛ فتباعًا لهذا النسق من الإنتاج، فقد فصّلوا في جسم الإنسان ووضعوا اسما لكلّ عضو فيه، مثل تفصيلهم في الرأس وما يتركّب منه وما له من صفات، وفي الشعر وأقسامه وألوانه. فنتجت كثرة في الأسماء تفيد بشموليّة إنتاجهم، وبشرط مجرد وجودها؛ قلق معرفيّ، وأنّ العربي كان مهجوسًا بالمعرفة. أذكر مثالًا واحدًا، بتفصيله؛ تفصيل تعاملهم مع العين (38).

 

في عوارض العين

حَسَرَتْ عَيْنُهُ إذا اعتَرَاهَا كَلال من طُولِ النَّظَرِ إلى الشَّيْءِ  زرَّتْ عَيْنُهُ إذا توقَّدتْ مِنْ خَوفٍ أو غَيْرِهِ  سَدِرَتْ عَيْنُهُ، إِذَا لَمْ تَكَدْ تُبْصِرُ  اسْمَدَرَّتْ عَيْنُهُ، إذا لاحَتْ لها سَمَادِيرُ، وهي ما يَتَرَاءَى لَهَا مِنْ أشْبَاهِ الذُّبَابِ وغَيرِهِ عِنْدَ خَلَل يَتَخَلَّلُه   قَدِعَتْ عَيْنُهُ، إذا ضعفت مِنَ الإكْبَابِ عَلَى النَّظَرِ (عن أبي زيْد)  حَرِجَتْ عَيْنُهُ، إذا حَارَتْ  هَجَمَتْ عيْنُهُ، إذا غارَتْ  وَنَقْنَقَتْ، إذَا زَادَ غُؤُورُهَا  وَكَذَلِكَ حَجَّلَتْ وهَجَّجَتْ (عن الأصْمَعيّ)  ذَهبَتْ عَيْنُه، إذا رأتْ ذَهَبًا كَثِيرًا فَحَارَتْ فِيهِ  شَخَصَتْ عَيْنُهُ، إذا لَمْ تَكَدْ تَطْرفُ، مِنَ الحَيْرَة. 

في تفصيل كيفية النظر وهيئاته في اختلاف احواله

إذا نَظَرَ الإِنْسَانُ إلى الشّيْءِ بِمَجَامِعِ عَيْنِهِ قِيلَ: رَمَقَه  فإنْ نَظَرَ إليهِ مِنْ جَانِبِ أذُنِهِ، قِيلَ: لَحَظَهُ  فإنْ نَظَرَ إليهِ بِعَجَلَةٍ قِيلَ: لَمَحَهُ  فإنْ رَمَاهُ بِبَصَرِهِ مَعَ حِدَّةِ نَظرٍ قيلَ: حَدَجَهُ بطَرْفه  وفي حديثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله  عنه: حَدِّثِ القوْمَ مَا حَدَجُوكَ بأبْصَارِهِمْ   فإنْ نظَرَ إليهِ بِشِدَّةٍ وحِدَةٍ قيلَ: أَرْشَقَهُ وأَسَفَّ النَظَرَ اليهِ . وفي حدِيثِ الشَّعبيّ أنَهُ " كَرِهَ أنْ يُسِفَ الرَجُلُ نَظَرَهُ إلى أَمِّهِ وَأخْتِهِ وابْنَتِهِ  فإنْ نَظَرَ إليهِ نَظَرَ المُتَعَجِّبِ مِنْهِ والكَارِهِ لَهُ، أو المُبْغِضِ إيَّاهُ قِيلَ: شَفَنَهُ. وَشَفَنَ إليهِ شُفُونًا وشَفْنًا  فإنْ أعارهُ لَحْظَ العَدَاوَةِ قيلَ نَظَرَ إليهِ شَزْرا  فإن نَظَرَ إليهِ بِعَيْنِ المَحبَّةِ قيلَ: نَظَرَ إليهِ نَظْرَةَ ذِي عَلَقٍ  فإنْ نَظَرَ إليهِ نَظَرَ المُسْتَثْبِتِ، قيلَ: تَوَضَّحَهُ  فإنْ نَظَرَ إليهِ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى حَاجِبِهِ، مُسْتَظِلًّا بِهَا مِنَ الشَّمْسِ لِيَسْتَبِينَ المَنْظُورَ إليهِ قيل: اسْتَكَفَّهُ واسْتَوْضَحَهُ واسْتَشْرَفَهُ  فإنْ نَشَرَ الثَوْبَ وَرَفَعَهُ لِيَنْظُرَ إلى صَفَاقَتِهِ أو سَخَافَتِهِ أو يَرَى عَوارًا إنْ كَانَ بِهِ، قِيلَ: اسْتَشَفَّهُ  فإنْ نَظَرَ إلى الشّيْءِ كاللَّمْحَةِ ثُمَّ خَفِيَ عَنْهُ قِيلَ: لاحَهُ لَوحَةً  فإنْ نَظَرَ إلى جَمِيعِ مَا في المَكَانِ حَتّى يَعْرِفَهُ قِيلَ: نَفَضَهُ نَفْضًا  فإنْ نَظَرَ في كِتَابٍ أوْ حِسَابِ لِيهذِّبَهُ أو لِيَستَكْشِفَ صِحَتَهُ وَسَقَمَهُ قِيلَ: تَصَفَّحَهُ  فإنْ فَتَحَ جَمِيعَ عَيْنَيْهِ لِشِدَّةِ النّظًر، قِيلَ: حَدَّقَ  فإنْ لأْلأَهُمَا قيلَ: بَرَّقَ عَيْنَيْهِ  فإنِ انقلبَ حِمْلاق عَيْنَيْهِ، قِيلَ: حَمْلَقَ  فإنْ غَابَ سَوَادُ عَينَيْهِ مِنَ الفَزَعِ، قِيلَ: بَرَّقَ بَصَرُهُ  فإنْ فَتَحَ عَيْنَ مُفَزَّع أو مُهَدَّدٍ قيلَ: حَمَّجَ  فإنْ بَالَغَ في فَتْحِها وَأحَدَّ النّظَرَ عندَ الخَوْفِ، قِيلَ: حَدَّجِ وَفَزعَ  فإنْ كَسَرَ عَيْنَهُ في النَّظَرِ، قِيلَ: دَنْقَسَ وطَرْفَشَ (عن أبي عمرو)  فإنْ فَتَحَ عَيْنيْهِ وَجَعَلَ لا يَطْرِفُ قِيلَ: شَخَّصَ. وفي القُرْآنِ شَاخِصَة أَبْصَارُ الَذِينَ كَفَرُوا   فإنْ أَدَامَ النّظَرَ مع سُكُونٍ قيلَ: أسْجَدَ (عن أبي عمرو أيضا)  فإنْ نَظَرَ إلى أفُقِ الهِلالِ لِلَيْلَتِهِ، لِيَرَاهُ قِيلَ: تَبَصَّرَهُ  فإنَّ أَتْبَعَ الشَّيءَ بَصَرَهُ قِيلَ: أَتأَرَهُ بَصَرَه. 

في أدواء العين

الغَمَصُ أنْ لا تَزَالَ العَيْنُ تَرْمَصُ  اللَّحَحُ أَسْوَأُ الغَمَصِ  اللَّخَصُ، الْتِصَاقُ الجُفُونِ  العَائِرُ، الرَمَدُ الشَّدِيدُ؛ وَكَذَلِكَ السَّاهِكُ  الغَرْبُ (عند أئمَّة اللغة) وَرَمٌ في المآقي، وَهُوَ عِند الأطِبَّاءِ أنْ تَرْشَحَ مَآقِي العَيْنِ، وَيسِيلُ مِنْهَا، إذا غًمِزَتْ، صَدِيدٌ. وهو النّاسُورُ ايضًا  السَّبَلُ، عِنْدَهُم أنْ يَكُونَ عَلَى بَيَاضِهَا وَسَوَادِهَا شِبْهُ غِشَاءٍ يَنْتَسِجُ بعُرُورقٍ حُمْرٍ  الجَسْاُ، أن يَعسُرَ على الإِنْسَانِ فَتْحُ عَيْنَيْهِ إِذَا انْتَبَهَ من النَّوْم  الظَّفَرُ، ظُهُورُ الظَفَرَةِ، وهي جُلَيْدَةٌ تُغشِّي العَيْنَ مِنْ تِلْقَاءِ المَآقي، وربَما قُطِعَتْ. وَإن تُرِكَتْ غَشِيتِ العَيْنَ حَتّى تَكِلَّ؛ والأطبَّاءُ يَقُولُونَ لَهَا: الطَفَرَةُ وَكَأنَّهَا عَرَبيَّة باحِتَة  الطَّرْفَةُ عِنْدَهُم، أنْ يَحدُثَ في العَيْنِ نُقْطَةٌ حَمْرَاءُ مِنْ ضَرْبَةٍ أو غَيْرِها  الانْتِشَارُ عِندهُم، أنْ يَتَسِعَ ثَقْبُ النَّاظِرِ حتّى يَلْحَقَ البَيَاضَ مِنْ كُلِّ جَانِب  الحَثَرُ عنِد أهلِ اللُّغَة، أنْ يَخرُجَ في العَينِ حَبّ أحْمَرُ، وأظُنُّهُ الذِي يَقُولُ لَهُ الاطِباءُ: الجَرَبُ  القَمَرُ، أنْ تَعْرِضَ لِلْعَيْن فَتْرَة وَفَسَاد مِنْ كَثْرَةِ النَّظَرِ إلى الثَّلْجِ. يُقَالُ: قَمِرَتْ عَيْنُهُ. 

في ترتيب البكاء

إذا تَهَيَّأَ الرّجلُ للبكاءِ قِيلَ: أَجْهَشَ  فإنِ امْتَلأتْ عَيْنُهُ دمُوعًا قِيلَ: اغْرَوْرَقَتْ عَيْنُهُ وَتَرَقْرَقَتْ  فإذا سَالَتْ قِيلَ: دَمَعَتْ وهَمَعَتْ  فإذا حَاكَتْ دمُوعُهَا المَطَرَ قِيلَ: هَمَتْ  فإذا كَانَ لِبُكَائِهِ صَوْتٌ قِيلَ: نَحَبَ وَنَشَجَ  فإذا صَاحَ مَعَ بُكَائِهِ قِيلَ: أَعْوَل.

كان من الممكن أن آتي بمعلومات غيرها، تفيد هي أيضًا بإلمام عرب ما قبل الدعوة وسعة معرفتهم بالطبّ، من مثل تعدادهم لأنواع الأمراض وألقاب العلل والأوجاع أو تعدادهم لأنواع الأورام والبثور والقروح، وأخرى من نوعها، ولكنّني آثرت هذا المثال، رغم طوله، لما يحمل من معانٍ تُفيد بطبيعة إنتاجهم المعرفيّ بعامّة، واشتغالهم بالطبّ بخاصّة. ومعه، لا أحسبنا نحتاج للكثير من التفسير لتفنيد آراء السرجانيّ والسامرائيّ وزيدان. 

أبدأ بالتذكير بما كنت قد أشرت إليه قبل قليل: إنّ هذا الإنتاج المعرفيّ، التفصيل في حالات الأشياء، يُشير إلى أنّ ما أتى به جورجي زيدان يعكس طبيعة معارفهم وكيف كانوا يُنتجونها، ويُفيد، من حيث إحاطتهم بالأشياء وبكلّ ما يتعلق بها، بأنّ معارفهم تتّصف بالشموليّة. إذا ما أخذنا هذين الأمرين سويّة، فإنّهما يُشيران إلى أنّ نمط إنتاجهم المعرفيّ مُتعارف عليه بينهم، مُمَأسس، وإلى أنّ معارفهم مُوغلة أصولها في القدم. فالكثرة في التفصيل، هذا النوع من الكثرة في التفصيل، بحد ذاته، يحتاج إنتاجه لكثير من الأشياء؛ يحتاج لكثير من الملاحظة الهادفة ولكثير من التمييز والدقّة، ويحتاج لكثير من التجربة ولكثير من المنهجيّة والاتّساق في طرائق العمل، ويحتاج، في شموليّته، أكثر ما يحتاج، أن يكونوا على وعي لطرائق عملهم ولمئات كثيرة من السنين. 

قبل أن أفسّر فهمي هذا وأبينه، وتمهيدًا له، سيكون من المفيد أن أُشير إلى أنّ تفصيلهم في الأشياء لم يقتصر على طريق واحد، بل أخذوا طرقًا مختلفة في التفصيل، فالمثال الذي أتيت به يتضمّن تفصيل في (1) حالات الأشياء، مثل تفصيلهم في كيفيّة النظر وهيئاته في اختلاف أحواله. وتفصيل في (2) المراحل التي تمرّ بها الأشياء، مثل تفصيلهم في أدواء العين. وتفصيل في (3) الأشكال المختلفة للأشياء، مثل تفصيلهم في العيون. وفي (4) ترتيب الأشياء، مثل تفصيلهم في البكاء. 

إن إنتاجهم المعرفيّ هذا، يحمل داخله ما يعكس آليته، وأنّه كان واعيًا، منتظمًا منظمًّا، وأنّه لم يكن وليد تجارب حدثت، عابرة، عشوائية غير مدروسة غير مقصودة. فإذا أخذنا تفصيلهم في ترتيب البكاء، على سبيل المثال، نرى أن تفصيلهم يبدأ مع بدء الحالة، فيتدرّج حتى يصل أقصاها. تفصيل من مثل هذا، يتضمّن فعل إنتاجه تتبّعًا، عليه أن يكون مُنتظمًا مُنظّمًا، لحالات الشيء المُفصّل فيه، بالوقوف على ما يميّز ويفصّل بين كل حال وحال. للتأكيد (39)، من دون نظاميّة وانتظاميّة التتبّع، فإنّ الوقوف على ترتيب تعاقبيّة الحالات ليس ممكنًا. ويتطلّب هذا التفصيل، كأنّما بشكل تناقضيّ، فعل تجريد؛ التفصيل في مختلف أنواع حالات الأشياء وفق صفاتها المميّزة لها يشير إلى تعامل العرب مع المتغيّر في الأشياء، أو، وللدقّة، يشير إلى تعاملهم مع تبدّلات حالاتها. التفصيل في حالات الطبيعة مثلًا، التفصيل في دورتها، هو فعل تحديد للثابت في حركتها، وفق ترتيبها، وجعله قابلًا للمعرفة. تتبّع العرب لخصوصية حالات الظواهر في حركتها، حالة حالة، يعني، إذن، أنّهم رأوا في الحركة دورة تشكّل لحالات، بالإمكان الوقوف على صفاتها الخاصة بها للفصل بينها وتبيينها. بمصطلحات هيريقليطيّة، ومقارنة معها، إنّ التمييز والفصل بين حالات الأشياء وفق خصوصيّتها، والذي يشير بحدّ ذاته إلى تتبّع استثنائيّ للحركة، هو تحديدهم للثابت من النهر في جريانه وتحوّله. تحديد الثابت في المتحول، من حيث أنه يتضمّن فعل حذف للمتغير من دورة إلى أخرى في دورة الحالات، من ناحية، ومن حيث أنّه يتضمن فعل تحديد للخصائص المشتركة لها، من ناحية أخرى، فهو فعل تجريد. 

الآن، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن فعل تجريد من مثل هذا لا يكون من دون دراسة واعية، يحتاج لعدّة مشاهدات متتاليات، ولمراجعة المشاهدات ومقارنتها مع بعضها، ومن ثمّ الخروج باستنتاج بخصوص الصفات المميزة لكل حالة من الحالات، مقارنة بما يسبقها وبما يأتي بعدها، فإنّنا نستطيع القول إنّ نظاميّة وانتظاميّة تتبّع الحالات في حركة الأشياء لا بدّ وأنّهما كانا وفق معرفة تفصيليّة للتجربة وفهم شامل وتامّ لما فيها من إمكانات كآلية للإنتاج المعرفيّ؛ وإلّا، لكانوا أنتجوا معارف فوضى. وعليه، فإنّه من المفهوم كيف أنّ الاستقراء، المنهج التجريبيّ، كان أسلوب الإنتاج العلميّ الأساس، بعد  الدعوة، في الحضارة العربيّة الإسلاميّة (40)، لنجد عند جابر بن حيانّ (41) أقوالًا من مثل "وقد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثتُ عنه حتى صحّ وامتحنته فما كذب" (42)، وسيكون من المفهوم، أيضًا، أن يقوم ثابت بن قرة باستخراج حركة الشمس ويحسب طول السنة في القرن الثالث هجريّ (43)، وأن يكون أثره في علم الرياضيات في إدخاله لمفهوم "الحركة في الهندسة مستغلًّا فكرة الحركة استغلالًا أساسيًّا لكي يقدّم بديلًا لفرضيّة المتوازيات لإقليدس. الأمر الذي أدّى إلى اكتشاف طرائق جديدة في هذا الجانب تختلف تمامًا عن طرق إقليدس" (44). وسيكون من المفهوم، كذلك، كيف يقوم ابن الهيثم، ابن القرن الرابع – الخامس هجريّ، بتصحيح المفاهيم السائدة في ذلك الوقت، والبرهان على أنّ الضوء يأتي من الأجسام إلى العين، وليس العكس كما ساد الاعتقاد آنذاك اعتمادًا على الإغريق.

أن يقوموا بالتفصيل في كلّ شيء، في كل شيء حولهم على الإطلاق، وأن تتعدّد طرقه عندهم، يحتاج، مجرد القيام به، للكثير الكثير من مئات السنين. نحن هنا لا نتحدث عن الوقت اللازم للتعرّف على الآليات الضرورية لإنتاج كهذا، ولا عن الوقت اللازم للتمكّن من هذه الآليات والشروع بإنتاج معرفيّ منظّم منتظم، بل عن الوقت اللازم لمجرّد إنتاج هذا الكمّ من المعرفة. فلو اقتصر الأمر على التفصيل بأشياء بعينها، ظواهر الطبيعة مثلًا، أو، لو لم تتعدّد طرق التفصيل بالأشياء لتحيط بكلّ ما يتّصل بها، لقلنا إنّ الأمر يحتاج لوقت طويل، ولكنّه، بالطبع، لا يحتاج لمئات كثيرة من السنين؛ شموليّة في التعامل كهذه، وكمّ في الإنتاج مثل هذا، لا يحصلان في وقت منظور. وإذا أضفنا الوقت اللازم للتعرّف على الآليات الضروريّة لإنتاج كهذا، والوقت اللازم للتمكّن منها، فالشروع بإنتاج معرفيّ منظّم منتظم، وافترضنا أنّ لهذا الإنتاج المعرفيّ علاقة بمحاولتهم للتغلّب على تقلّبات الصحراء، كما البعض يقول (45)، فسنقول إنّهم لا بدّ بدأوا في وقت مبكّر من هذه المحاولة.

قبل الانتقال إلى تبيين ما يعنيه كل هذا بخصوص معارفهم الطبّيّة، وتمهيدًا له، سيكون من المفيد أن نضيف إلى القائمة أعلاه نموذجًا من إنتاجهم للكلّيات (46):   

كلُّ ما عَلاك فأظلَّك فهو سماء  كلُّ أرض مُسْتَوِيَةٍ فهي صَعيد  كلُّ حاجِزِ بين الشَيْئينِ فهو مَوْبِق  كل بِناء مُرَبَّع فهو كَعْبَة  كلُّ بِنَاءٍ عالٍ فهو صَرْحٌ  كلُ شيءٍ دَبَّ على وَجْهِ الأرْضِ فهو دَابَّةٌ  كلُّ ما غَابَ عن العُيونِ وكانَ مُحصَّلا في القُلوبِ فهو غَيْب  كلُّ ما يُسْتحيا من كَشْفِهِ من أعضاءِ الإِنسانِ فهو عَوْرة  كلُّ ما أمْتِيرَ عليه من الإِبلِ والخيلِ والحميرِ فهو عِير  كلُّ ما يُستعارُ من قَدُومٍ أو شَفْرَةٍ أو قِدْرٍ أو قَصْعَةٍ فهو مَاعُون  كلُّ حرام قَبيحِ الذِّكرِ يلزَمُ منه الْعارُ كثَمنِ الكلبِ والخِنزيرِ والخمرِ فهو سُحْت  كلُّ شيءٍ من مَتَاعِ الدُّنْيا فهو عَرَض  كلُّ أمْرٍ لا يكون مُوَافِقًا للحقِّ فهو فاحِشة  كلُّ شيءٍ تَصيرُ عاقِبتُهُ إلى الهلاكِ فهو تَهْلُكة  كلُّ ما هَيَجتَ به النارَ إذا أوقَدْتَها فهو حَصَب  كلُّ نازِلةٍ شَديدةٍ بالإِنسانِ فهي قارِعَة  كلُّ ما كانَ على ساقٍ من نَباتِ الأرْضِ فهو شَجَرٌ  كلُّ شيءٍ من النَّخلِ سِوَى العَجْوَةِ فهو اللَينُ واحدتُه لِينَة  كلُّ بُسْتانٍ عليه حائطٌ فهو حَديقة والجمع حَدَائق  كلُ ما يَصِيدُ من السِّبَاعِ والطَّيرِ فهو جَارِح والجمعُ جَوَارِح. 

بداية، أمران: الأوّل، إنّ إنتاج هذا النوع من الكلّيات وكلّيات أرسطو الخمسة على حد سواء، لا يختلف، من حيث المتطلّبات، عن إنتاج التفصيل؛ فإنتاجها، هو الآخر، يحتاج لحذف المختلف بين الأشياء، من ناحية، ويحتاج لتحديد المميّزات المشتركة لها، من ناحية أخرى. فيكون تحديدها وتصنيفها وفصلها عن بعضها بالإشارة إلى ما يفصلها ويميّزها عن غيرها. أمّا الاختلاف بين إنتاج هذا النوع من الكلّيات وإنتاج كلّيات أرسطو فيتلخّص بأنّ إنتاج هذه الكلّيات لا يكون بواسطة الإشارة إلى الماهيّات، أي، وبكلمات أخرى، لا يكون بواسطة الإشارة إلى الصفات التي تجعل من الشيء ما هو، والتي من دونها يتوقّف الشيء أن يكون هو، وإنما يكون بالإشارة إلى الخاص فيها دون غيرها، إلى صفات مميزة تبين الشيء (47)؛ صفات مميّزة من مثل هذه، وإن كانت لا تجعل الشيء ما هو، لكنها تُعرّفنا به. الثاني، إنّ إنتاج الكليّات هذه، وكليّات أرسطو الخمسة على حد سواء، لا يحتاج لتتبّع ومشاهدات متتاليات، أي، وبكلمات أخرى لا يحتاج، كشرط لمجرّد إمكانية إنتاجه، للكثير من النظام والانتظام، ولا لكثير من السنين، كما يحتاج إنتاج التفصيل في حالات ظواهر الطبيعة، التفصيل في الشهر وتقسيمه لعشرة حالات والتفصيل في اليوم وتقسيمه لأربع وعشرين حالة على سبيل المثال (48)

بهذا، بإنتاجهم لهذا النوع من الكليّات وبتفصيلهم في حالات كل شيء، ظواهر طبيعيّة كانت الأشياء أم اجتماعيّة، يكون العرب قد أنتجوا مثلما أنتج ومثلما لم ينتج اليونان، أو غيره، ويكونوا على معرفة بما يتطلّب كلّ إنتاج معرفيّ بما هو. 

الآن، إذا كان التفصيل نمط إنتاج معرفيّ عندهم، وكان فهمنا صحيحًا بأن صيرورة إنتاجهم العلمي طويلة الأمد، واعية ومكثّفة، وأنّ اهتمامهم بالإنتاج العلميّ، بالتالي، كان عظيمًا، سيكون من الضروريّ أن يكون التعامل مع معارفهم، مع كل معارفهم، ضمن هذا الفهم، والذي يعني، أول ما يعني، أن السرجانيّ أخطأ عندما قال إن "الطب العربي قبل الإسلام لم يكن غير طب شعبيّ ينتقل بالممارسة والتعلم شفاهًا من جيل إلى جيل، وقد أضافت إليه الأعوام خبرة بعد أخرى"، ويعني أنّ معارفهم لم تكن، كما قال زيدان، تستند إلى "ملاحظات أوّليّة بسيطة"، وبالطبع ليس كما قال السامرائيّ إنّهم حصلوا على معارفهم "الطبّيّة بالمشاهدة والتجربة. فعرفوا بعض الأمراض بالمقارنة إلى ما يظهر على ماشيتهم أو على صحرائهم من تغيّرات غير مألوفة"، بل على العكس من ذلك؛ فإن كان لنا أن نفهم قيامهم بنقب العين لعلاج الماء الأسود فيها، أو علاج الماء الأبيض باستعمال الأشياء الرفيعة الحادّة لرفع الغشاء الرقيق وسحبه عن العين، بعد اكتمال نزول الماء بها، فإنّ فهمنا سيكون من باب أنّهم حقا كانوا، كما زيدان بنفسه يقول، "على معرفة بتشريح الأعضاء" (49)، وإن كان لنا أن نفهم كيف أنّ عرب ما قبل الدعوة قد اكتشفوا علاقة الطمث مع اكتمال القمر في المحاق، فإن فهمنا هذا عليه أن يكون من باب أنّهم كانوا على معرفة بتشريح أعضاء الإنسان، وبما يرتبط بها من عمليات داخلية، من ناحية، ومن باب عمق معرفتهم للطبيعة وحركة الكواكب، من ناحية أخرى، وقد تعاملوا معها كأجداع بيتهم (50). غير ذلك، أي في حالة عدم تعاملنا مع معارفهم من هذا الباب، سيكون أمامنا إما أن نقع في تناقض داخليّ، كالذي وقع فيه زيدان (51)، أو شيء يُشبهه، وإما أن نعبر عن عدم فهمنا لإمكانية وجود معلومات تحتاج للكثير من المعرفة وللكثير من الإعمال الفكريّ الواعي، مثلما حدث مع السامرائيّ عندما وجد أنّهم على معرفة بعلاقة الطمث مع اكتمال القمر، أو عندما وجد أن الزوج، لا القابلة، هو من كان يقوم بعملية السطو، إخراج الجنين الميّت من الرحم. ولو أن السامرائيّ أخذ تفصيلهم في الأعضاء وفي أجزائها على أنّه يعكس معرفتهم بالتشريح، لما كان سيُعطي إخراجهم للجنين من الحوامل الأموات، الخشعة، التفسير الذي أعطاه، بأنّه "إذا كان الرعاة يمارسون هذه العملية على أنعامهم ساعة تنفق، فلا نستبعد أن يكون هؤلاء الرعاة هم الذين يُمارسون عمليّة الخشعة على نسائهم".

إن تفسيرا كهذا، يفرض أنّ تركيب جسم الإنسان لا يختلف عن تركيب جسم النوق والأغنام. فإذا كان الرّعاة يمارسون على أنعامهم هذه الجراحة ساعة تنفق، واقتراح السامرائيّ أنّهم هم من قاموا بهذه العملية عندما امرأة حامل توفاها الله، فهذا يعني أنّه يقترح أنّ المعارف الضروريّة لإجرائها، تشريح البطن والرحم وملحقات الحمل، مستمدّة من هناك، أي أنّها معلومات تناقلها الرعيان من جيل لآخر، محصّلة من تجارب يوميّة مشابهة مع أنعامهم. وبوصفها كذلك، أي بوصفها معلومات رعيان، فهي، لا بد وأنّها، لم تخضع للبحث والدراسة؛ ربّما تكون قد خضعت لبعض الاهتمام والمعاينة، ولكنّها بالطبع لم تخضع للبحث، ليس العلميّ على أي حال، وبالطبع لم يعرف هؤلاء الرعيان البحث المقارن في علم التشريح، بين الأنعام، بعضها مع بعضها، وبينها وبين أنثى الإنسان. 

كيف من الممكن للسامرائيّ، إذن، أن يُعطي تفسيره هذا إن لم يفرض أنه ليس من اختلاف بين الناقة والفرس والغنمة وأنثى الإنسان، من حيث تركيبها الداخلي، أو، على الأقل، إن لم يفرض حدود تشابه يُمكن الرعيان من القيام بمثل هذه العمليّة؟ 

لست، في الحقيقة، على يقين من ضرورة الإشارة إلى الاختلافات بين الغنمة والمرأة، أو بين الغنمة والفرس والناقة، لإظهار عمق الإشكال المتضمّن في تفسير السامرائيّ. لهذا، ستكتفي الإشارة إلى أنّ الأحشاء الداخليّة، سواء كانت في الصدر أم في البطن، تختلف في حجمها وموقعها في الإنسان عن سائر الثدييات، وأنّ الأنعام تختلف مواقع وأحجام أحشائها بحسب نوعها، فمكان المبيض في الجسم، على سبيل المثال، يكون بحسب نوع الحيوان وعمره وحالته التناسليّة، ففي الحيوانات المجترّة تكون المبايض عند مستوى قاع المدخل للتجويف الحوضيّ. تكون على مسافة 25 سم من فتحة الفرج في الأبقار، 40 سم في النوق. بينما يقع المبيض في الأفراس تحت البروزات المستعرضة للفقرات القطنيّة الرابعة والخامسة، وتكون على مسافة 55 سم من فتحة الشرج. 

هذه المعلومات، ومعلومات تفصيليّة كثيرة أخرى بالخصوص، معروفة بالطبع لطبيب مثل السامرائيّ، فيكون السؤال: كيف له أن يُفسّر وجود هذه العملية الجراحيّة بأنّ الرعيان لا بدّ وأنّهم من قاموا بها؟ 

لا أرى، في الحقيقة، إجابة لسؤالي هذا سوى أنّ آراءه المسبقة عن عرب ما قبل الدعوة أمْلت عليه مثل هذا التفسير، كما حدث مع الغالبيّة العظمى من الباحثين الذين اصطدموا بمعلومات تتعارض وما يحملون من أفكار عنهم. ولو أنّه أعاد النظر بآرائه إثر ما وجد من معلومات، لأعطى تفسيرًا مختلفًا، يتلاءم وكونه طبيبًا عالمًا، ولارتسمت صورة أخرى عن عرب ما قبل الدعوة، مغايرة لتلك التي رسمها في مؤلّفه، صورة من شأنها أن تجعله ينظر إليهم بعين أخرى، من جهة، ومن قراءة مختلفة للحضارة العربيّة الإسلاميّة، من جهة ثانية، قراءة تأخذ الإنتاج المعرفيّ، ما قبل الدعوة، على أنّه فاعل مؤثّر فيها، مُحدد في حركتها.

 

ختام القول 

عندما ينظر الباحثون في الحضارة العربيّة الإسلاميّة كأنّما لا شيء كان قبلها، سيرون بأنّ الدعوة كانت بدايتها الأولى، وسيكون من المتوقع، بالتالي، أن تأخذ صيرورتها عندهم صفة البدْئيّة والسذاجة زمنًا طويلًا، وسيكون من المفهوم كيف يقول المقريزي عن الصحابة إنّه "لم يكن عند أحد منهم ما يستدلّ به على وحدانيّة اللّه تعالى، وعلى إثبات نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئًا من الطرق الكلاميّة ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا.. إلى أنّ حدث في زمنهم القول بالقدر، وأنّ الأمر أنف: أي أنّ الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئًا ممّا هم عليه". وفي هذه الحالة (52)، سيكون من المفهوم أيضًا، أن يعتقد الباحثون بأنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة احتاجت، من أجل أن تنهض بنفسها، لحضارات ناضجة، من مثل الحضارة الإغريقيّة. الأمر الذي يعني، فيما يعني، عدم التوقف عند الكثير من الأحداث قبل الانكشاف على الخارج، بصفة أنّها أحداثًا لا تُعبّر، ليس بعد، عن حركة فكر يتشكل ويتطور، أو بصفة أنّها مُستوردة، مُنفصلة، لا ماض لها ولا سياق. فلا يرون صلة بين اشتغال الخوارج في التأويل وبين خروجهم السياسيّ على عثمان بن عفّان (53) ومن ثمّ على عليّ بن أبي طالب، ولا بين مساءلة الخوارج وعليّ بن أبي طالب للمشيئة الإلهيّة واستطاعة الإنسان، ومساءلة معبد الجهنيّ للذات الإلهيّة ونفيه لعلم الله بالأشياء قبل حدوثها. وستكون النتيجة أن يُنْظر إلى المعتزلة كشيء حادث للحضارة العربيّة الإسلاميّة، كما جاء في قصة الشهرستانيّ، كأنّما سقط من السماء. أمّا عندما ننظر إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة كما يُنظر إلى سائرالحضارات، أنّ مدارسها وفرقها لا تنشأ من فراغ، أنّ لها سياقاتها وشروطها التاريخية، تتأثّر وتؤثّر فيها، ولها مقدّماتها وماضيها الأبعد، وحاضر يتحرّك يؤثّر في مستقبلها، عندها سننظر إلى إنكار الجهم بن صفوان والجعد بن درهم للصفات على أنّهما امتدادان لحركة فكريّة عربيّة إسلاميّة، في الطريق إلى المعتزلة، سبقهما معبد الجهنيّ والمرجئة والخوارج وسجالات عليّ بن أبي طالب في مسألة القدر والجبر والمشيئة الإلهيّة واستطاعة الإنسان، وصولًا إلى سجالات الصحابة زمن الرسول، بل وإلى انشغال عرب ما قبل الدعوة بالمسائل العقائدية. أي، وبكلمات أخرى، عندها سننظر إلى أنّ العرب قبل الدعوة كان لهم رأي وفلسفة في الدين، وإلى أن المسلمين الأوائل كانوا يضربون القرآن بعضه ببعضه، وإلى تكفير الخوارج لمرتكب الكبيرة وخروجهم على عثمان بن عفّان وعلى عليّ بن أبي طالب، بل وإلى أنّهم، الخوارج، كانوا "يصعقون عندما يُقرأ عليهم القرآن" (54)، وأنّهم كانوا "يستبدّون برأيهم ويتنطّعون (55) في الزهد والخشوع وغير ذلك" (56)، سننظر إلى هذه جميعها على أنّها أحداث حدّدت في حركة الحضارة العربيّة الإسلاميّة وفي وِجْهتها. وسننظر، بالتالي، إلى نشوء المعتزلة على أنّه امتداد لحركة اشتغال فكريّ عربيّ قبل أن يكون عربيًّا إسلاميًّا، بل وسيكون من المتعذّر مجرّد قبول الفكرة أنّ الحضارة العربيًّة الإسلاميًّة انتظرت حتّى القرن الثالث للهجرة مجيء الفلسفة. 

 

..........

إحالات

(1) يرى جابر بن حيّان نقصانًا في منزلة المُعتقد بتعريف أرسطو للنفس. (أحمد فريد المزيدي، رسائل جابر بن حيّان، بيروت: دار الكتب العمليّة، 2006، 24).
(2) سيتمّ التفصيل، في الفصل الأوّل، في طبيعة إنتاجهم المعرفيّ هذا، وسنقف على آلياته وشروطه. ولهذا، يكفي، هنا، بذكر مثال واحد للتوضيح؛ تفصيلهم في معايب الفم: "الشدَقُ سعة الشدقين  الضخَمُ ميل في الفم وفيما يليه  الضزَزُ لُصوق الحنك الأعلى بالحنك الأسفل  الهَدَلُ استرخاء الشفتين وغِلظهما  اللطَعُ بياض يعتريهما  القلبُ انقلابهما  الجلعُ قُصورهما عن الانضمام  البرطمة ضِخمهما". (أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبيّ، فقه اللغة وأسرار العربيّة، تحقيق ياسين الأيوبيّ، بيروت: المكتبة العصرية، 2000، 149-150). وتجدر الإشارة إلى وجود أسماء غيرها في مصادر كثيرة أخرى، ولكنّ الأسماء التي سنأتي بها في مؤلّفنا هذا، سنأخذها، في غالبيّتها عن فقه اللغة للثعالبيّ. 

(3) عبد الله بن سنان الخفاجي، سرّ الفصاحة، تحقيق إبراهيم شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلميّة، 2010، 210.
(4) المصدر السابق، 210-211.
(5) محمد عابد الجابري، نقد العقل العربيّ – تكوين العقل العربيّ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2009، 86.
(6) المصدر السابق، 87.
(7) محمد عابد الجابري، نقد العقل العربيّ – تكوين العقل العربيّ، مصدر سابق الذكر، 86.
(8) وقد أخذ الجابري هذا عن: زكي الأرسوزي، المؤلّفات الكاملة، دمشق: وزارة الثقافة، 1979.
(9) انظر في هذا: جورج طرابيشي، نقد نقد العقل العربيّ – إشكاليّات العقل العربي، بيروت: دار الساقي، 1998، 140.
(10) أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، فقه اللغة وأسرار العربيّة، مصدر سابق الذكر، 282-283.
(11) ثلاثة التعريفات مأخوذة عن المعجم الوسيط: إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، القاهرة: مجمع اللغة العربيّة، 2004.
(12) محمد عابد الجابري، نقد العقل العربيّ – تكوين العقل العربيّ، مصدر سابق الذكر، 78.
(13)  المصدر السابق، 88.
(14) جميع هذه الأسماء موجودة في المعجم الوسيط؛ مصدر سابق الذكر.
(15) محمد عابد الجابري، نقد العقل العربيّ – تكوين العقل العربيّ، مصدر سابق الذكر، 76.
(16) الثعالبي، فقه اللغة، مصدر سابق الذكر، 305.
(17) محمد بن سلّام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، شرح محمود محمد شاكر، القاهرة: دار المعارف للطباعة والنشر، غير مؤرخ، 10. 
(18) أبي العباس أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى، القاهرة: دار الكتب الخديوية، 1913، 183- 184.
(19) سآتي على ذكرها، وموضوعاتها، لاحقًا.
(20) ابن أبي أُصَيْبِعة، عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، تحقيق نزار رضا، بيروت: دار مكتبة الحياة، غير مؤرّخ، 387 - 388.
(21) عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفيّ في الإسلام، القاهرة: دار المعارف، غير مؤرّخ، الطبعة الثانية، 6.
(22) انظر: جمال ضاهر وآخرون، خصائص اللغة والفكر عند عرب ما قبل الدعوة، أزمنة حديثة، عدد 12 (2016): 38 - 50. 
(23) انظر: جمال ضاهر، حدود المعرفة، بيروت: دار الفارابي، 2018، 79-82.
(24) William Ross, Aristotle’s Prior and Posterior Analytics, Oxford: Clarendon Press, 1957, 44
(25) كوني سآتي بالتحليل المعمّق، لاحقًا، على الكثير من النماذج، وسأخرج باستنتاجات أخرى، أكتفي هنا بإجابتي هذه من دون تبيينها بالأمثلة.   
(26) في معاني هذه الحجّة وانطباقاتها، انظر: جمال ضاهر وآخرون، قدم الكتابة وانتشارها عند العرب في شمال الجزيرة العربيّة، مجلّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الرباط، عدد 33، 2014: 43 - 70.
(27) انظر في هذا: جمال ضاهر وآخرون، خصائص اللغة والفكر عند عرب ما قبل الدعوة، مصدر سابق الذكر.
(28) راغب السرجاني، قصّة العلوم في الحضارة الإسلاميّة، القاهرة: مؤسسة اقرأ، 2009، 26 - 27
(29) هي: محمّد الصادق عفيفي، تطوّر الفكر العلميّ عند المسلمين، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1977؛ محمود الحاجّ قاسم، الطبّ عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات، جدّة: الدار السعوديّة للنشر، 1987؛ علي عبد الفتاح بن عبد الله الدفاع، روّاد علم الطبّ في الحضارة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، 1998.    
(30) كمال السامرائيّ، مختصر تاريخ الطبّ، بغداد: دار النضال، 1987، 199 - 201.
(31) المصدر السابق، 205. والتسويد، في المكانين.
(32)  المصدر السابق، 205.
(33)  المصدر السابق، 205.
(34) جواد علي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الثامن، بيروت: دار العلم للملايين/بغداد: مكتبة النهضة، 1971، 398 - 39.
(35) المصدر السابق، 401.
(36) جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربيّة، الجزء الأوّل، القاهرة: دار الهلال، 176.
(37) فتمامًا كما عبر السامرّائي عن شكوكه بمعرفتهم وهو على علم بهذه الصورة، كذلك فعل جورجي زيدان؛ وقد فعل ذلك وهو يعدّد الأسماء الّتي وضعوها لأعضاء جسم الإنسان وأوصافها، بل لقد فعل ذلك بعد أن قال إنّ معرفتهم هذه إنّما هي "من قبيل علم التشريح". يقول جورجي زيدان، كأنّما يستدرك فلا يؤخذ عليه مأخذ: "ينبغي ألّا نبالغ في معرفة عرب الجاهليّة بالطبّ، فإنّ ما كان عندهم من ذلك لا يتجاوز ملاحظات أوّليّة بسيطة، وفي ذلك يقول ابن خلدون: ’للبادية من أهل العمران طبّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثة عن مشايخ الحيّ وعجائزه، وربّما يصحّ منه البعض، إلّا أنّه ليس على قانون طبيعيّ ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا كثير، وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلده وغيره‘". (المصدر السابق، هامش صفحة 176).
(38) كل ما سنأتي به من أسماء، هُنا، مأخوذ عن فقه اللغة وأسرار العربيّة للثعالبيّ.
(39) لا أقول إنّ كل ما فصّلوا فيه يأخذ هذا الترتيب، فقد فصّلوا بما يتلاءم والموضوع، ولا أقول إنّ هذا المثال أفضل ما يفيد بما يتضمن فعل الإنتاج، ولكنّني أتيت به لكونه يتّصل مباشرة بموضوع هذا البحث. ففي تفصيلهم لحركة الطبيعة في الزمن وضعوا ترتيبًا آخر، فيه تتبّع للتحوّلات الحادثة في الطبيعة، لا يحتاج للكثير من أجل رؤيته ودلالاته. فنجد أنّ تفصيلهم هذا لا يتوقّف عند التحديد العام لتشكّلات ظواهر الطبيعة في دورة الأرض حول نفسها حول الشمس، أربعة فصول السنة، كما ولا يتوقّف عند تقسيم اليوم إلى نهار وليل، وتقسيم النهار إلى صبح وظهر وعصر ومساء. بل قاموا بتقسيم الشهر إلى عشرة حالات، لكلّ ثلاث ليال اسم خاص بها، وبتقسيم اليوم إلى أربع وعشرين حالة، لكل حالة لفظة، تقابل كل منها ساعة من ساعاته بما يتلاءم وحالة الطبيعة في تلك الساعة. 
تقسيم حالات الشهر: 
"الثلاث الأولى: غرر، والثانية: نفل، لأن الغُرَرَ كانت أصلًا وهذه زيادة عليها، والثالثة: بُهْرٌ، يغلب فيها ضوء القمر ضوء النجوم، والرابعة: زُهْرٌ، لبياضها، والخامسة: بيضٌ، لأن القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها، والسادسة: دُرَعٌ، لسواد أوائلها وبياض سائرها، والسابعة: ظلم، لغلبة السواد عليها، والثامنة: حَنادسُ، لشدّة سوادهن، والتاسعة: مِحاقٌ، يَمّحِقُ فيها الهلال، والعاشرة: الدّادءَ، والدّأدأة شدّة الظلمة، وفيها يستسر القمر ليلة أو ليلتين، فلا يُرى غدوة ولا عشيّة، وتسمى ليلة الثامن والعشرين الدّعجاء، والتاسع والعشرين الدّهْماء، والثلاثين الليلاء، وهي الثلاث الدّادءُ". (أبو إسحاق إبراهيم ابن إسماعيل ابن الأجدابيّ، الأزمنة والأنواء، تحقيق عزّة حسن، الرباط: دار أبي رقراق، 2006، 85 - 87) 
تقسيم حالات اليوم:
"ساعات النهار: الشروق ثم البكور ثم الغدوة ثمّ الضحى ثم الهاجرة ثمّ الظهيرة ثم الرواح ثم العصر ثم القصر ثم الأصيل ثم العشيّ ثم الغرب. ساعات الليل: الشفق ثمّ الغسق ثمّ العتمة ثمّ السدفة ثمّ الفحمة ثمّ الزلة ثمّ الزلفة ثمّ البهرة ثمّ السحر ثمّ الفجر ثمّ الصبح ثمّ الصباح". (الثعالبيّ، مصدر سابق الذكر، 348 - 349)  
(40) انظر في هذا: فرانتز روزنتال، مناهج العلماء المسلمين، ترجمة أنيس فريحة، بيروت: دار الثقافة، 1961، 75 - 78.
(41) الذي ظلّ تدريس الكيمياء في الجامعات الأوروبيّة، حتى أوائل القرن الخامس عشر، مقصورًا على تدريس مؤلفاته. (يمنى الخولي، بحوث في تاريخ العلوم عند العرب، وندسور: مؤسسة هنداوي، 2017، 50).
(42) أحمد فغريد المزيدي، رسائل جابر بن حيّان، المقالة الثانية والثلاثين، بيروت: دار الكتب العلميّة، 2014، 162. انظر بخصوص التجربة عند جابر بن حيّان: يمنى الخولي، المصدر السابق، 52 - 53. 
(43) وقد كان حسابه لها "أكثر من الحقيقة بنصف ثانية". (حافظ قدري طوقان، مجلة الرسالة، عدد 400 / صفحة لامعة من تراث العرب العلمي، 3 / آذار / 1941).
(44) فاضل محمد الحسيني، آفاق الحضارة العربيّة الإسلاميّة، عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، 2006، 87.
(45) انظر على سبيل المثال: أنطون شال، الأساس في فقه اللغة العربيّة، تحقيق سعيد حسن بحيري، القاهرة: مؤسّسة المختار، 2002، 29.
(46) أكتفي بذكر مثال واحد منها، فلا حاجة لتعدادها جميعها هنا. للمزيد في هذا، وفي غيره من أنواع التفصيل، انظر: الثعالبي، فقه اللغة وأسرار العربية، مصدر سابق الذكر. 
(47) لسنا هنا بصدد المفاضلة بين التوجهين، العربيّ واليونانيّ، ولكنّنا، مع هذا، نرغب التنويه إلى أنّ الفكرة القائلة بوجود ماهيات هي فكرة مليئة بالمشاكل مشكوك بصوابها برمّتها. انظر: Bertrand Russell, A History of Western Philosophy, New York: Simon & Schuster, 1972, 201; Johnson Mendie, Asouzu’s Critique of Philosophy of Essence and Its Implication for the Growth of Science, Philosophy Study, May 2015, Vol. 5, No. 5, 233-243 

(48) انظر هامش 17.
(49) بقوله هذا، يكون زيدان قد أوقع نفسه في تناقض داخليّ، فهو، من ناحية، يقول إنّ "أولئك الجاهليّين كانوا على معرفة بتشريح الأعضاء"، ومن ناحية، يقول إن معارفهم تستند إلى "ملاحظات أوّليّة بسيطة"؛ كيف تكون معرفتهم بتشريح الأعضاء وليدة ملاحظات أوّليّة بسيطة؟ كيف لمعرفتهم للأذن "وما تركّبت منه وأقسامها.. فالوجه وما تركب منه.. فالحاجب وأنواعه وما يُحمد منه وما يُذمّ.. والعين واصنافها وطبقاتها ومجاري دمعها، وغير ذلك ممّا اشتملت عليه. والأنف وما تركّب منه وبيان أقسامه. والفم وما تركّب منه. والأسنان وعددها وأسماء أصنافها وأجزائها ومنابتها. واللسان وما اشتمل عليه من الأجزاء والعظام التي في اسفله"، كيف لهذه المعارف، التي هو يُعدّدها ويصنّفها كمعرفة بتشريح الأعضاء، أن تكون وليدة ملاحظات أوّليّة بسيطة؟
(50) يورد الجاحظ، عن اليقطري، قصة أعرابيّ كان يصف "لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء، ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات الليل والسعود والنحوس. فقال قائل لشيخ عباديّ كان حاضرًا: أما ترى هذا الأعرابيّ يعرف من النجوم ما لا نعرف! قال: ويل أمك، من لا يعرف أجداع بيته؟" أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، الجزء السادس، القاهرة: مطبعة مصطفى ألبابي الحلبي وأولاده، غير مؤرخ، الطبعة الثانية، 31.
(51) انظر هامش 42.
(52) المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي، الجزء الثالث، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1998، 420.
(53) يُستفاد من بعض ما أتانا من قصص بخصوص قتل الخوارج لعثمان بن عفان أن الأمر له علاقة بمسألة التكفير. فكما "يروي ابن عساكر عن ابن عوف أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبيه، وضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في عليه". (ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق الذكر، ج 7، 185) ثلاث الطعنات التي طعنها لله، هي طعنات دينية، وقد اعتقدوا بكفر عثمان. (ابن حجر، فتح الباري، مصدر سابق الذكر، ج 12، 283، مادة رقم 6932) وكذلك هو الأمر بالنسبة لخروجهم على علي بن أبي طالب، فقد كان نتيجة لإيمانهم بكفر "مرتكب الكبيرة، لأن الخروج على أئمة المسلمين المخالفين لهم ناشئ في الغالب من اعتقادهم كفرهم بما ارتكبوه". (سليمان الغصن، الخوارج، مصدر سابق الذكر، 51) وقد كان عددهم قد تزايد عندما ناصروا علي بن أبي طالب في حربه ضد معاوية وأصبحوا "ثمانية آلاف وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف وقيل ستة آلاف". (ابن حجر، فتح الباري، مصدر سابق الذكر، ج 12، 284، مادة رقم 6932) أي أنهم كانوا من القوة والكثرة أن يبعثوا إليه برسالة يُكفرونه عندما طلب مساعدتهم بعد أن تراجع عن التحكيم: "أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، ولكن غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك أنك كفرت فيما كان من تحكيمك الحكمين، واستأنفت التوبة والإيمان نظرنا فيما سألتنا من الرجوع إليك، وإن تكن الأخرى، فإننا ننابذك على سواء وإن الله لا يهدي كيد الخائنين". (أبي حذيفة الدينوري، الأخبار الطوال، تحقيق عصام محمد الحاج علي، بيروت: دار الكتب العلمية، 2011، 304) ولهذا، أي لأن اسبابهم كانت دينية، نجد عمر بن عبد العزيز يقول لهم: "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا أو متاع، ولكنكم طلبتم الآخرة فأخطأتم سبيلها". (المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، الجزء الثالث، بيروت: دار الكتب العلمية، 2012، 233) ونجد علي بن أبي طالب يسأل من حوله ألا يقاتلوا الخوارج من بعده، مفسرا طلبه هذا بقوله: "ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه". (أبي حامد عز الدين ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد عبد الكريم النمري، الجزء الخامس، بيروت: دار الكتب العلمية، 2009، 54).
(54) أشرف بن إبراهيم بن أحمد بن قطقاط، البرهان المبين في التصدي للبدع والأباطيل، الجزء الأول، بيروت: دار الكتب العلمية، 2006، 539.
(55) التنطع في الكلام: التعمق فيه مأخوذ منه. وفي الحديث: هلك المتنطعون؛ هم المتعمقون المغالون في الكلام. (ابن منظور، مصدر سابق الذكر، مادة: ن. ط. ع).
(56) ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، مصدر سابق الذكر، ج 12، 284، مادة رقم 6932.

 

 


جمال ضاهر

 

روائيّ وباحث في مجال المنطق وعرب ما قبل الدعوة الإسلاميّة. رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت، ومدير برنامج ماجستير الدراسات العربيّة فيها. ممّا صدر له: "‘عند حضور المكان" (رواية، 2000)، "وأضحى الليل أقصر" (رواية، 2005)، "مفاهيم في المنطق، أسس وقواعد" (2010)، "قواعد في المنطق: أسس ومفاهيم" (2012)، "العدم" (رواية، 2013).